إلى «محفل نجمة سورية» الماسوني :كتاب استقالة

حضرة رئيس «محفل نجمة سورية» الموقر وأعضائه المحترمين

إخواني الأعزاء:
تحية أخوية مثلثة لكم. أما بعد، فإن ختام كل سنة حد فاصل بين عهد ماضٍ معيّن أصبح جزءاً من التاريخ الذي لم يعد في الإمكان تغييره، وعهد مقبل يمكننا تصوره تصورات تختلف باختلاف النظريات، ولكنه يبقى عرضة للتطور تبعاً لحالات معيّنة وإجراءات معيّنة، منها ما هو مقصود وهو الأهم ومنها ما هو غير مقصود مما لم يُنتبه إليه وهو مهم أيضاً. والفلاسفة يقولون إنّ درس الماضي يؤثر كثيراً على تطور المستقبل، لذلك أنشىء علم التاريخ الذي هو في مقدمة العلوم المهمة جداً في حياة البشر. والذين يدرسون التاريخ جيداً يستفيدون كثيراً. وأنا إنما أقصد في سياق هذا الموضوع أن أجعل خطابي الوداعي لــ«محفل نجمة سورية» خطاباً ملؤه الإخلاص والمحبة والفائدة. وهذه الأوصاف الثلاثة هي ما عاهدت نفسي عليه في خدمة مبدأ البنائين الأحرار وهذا المحفل المبجل والموقر.

أجل، إنّ درس الماضي يؤثر كثيراً على تطور المستقبل، ودرس الماضي يجب أن لا يقتصر على الماضي القريب، بل يجب أن يتناول الماضي البعيد لكي تتم الفائدة منه. فالتفكير في السنة الماضية لهذا المحفل يحملنا على التفكير في السنين التي مرت على هذا المحفل وفي الأحقاب الطوال التي تعاقبت على جمعية البنائين الأحرار منذ تأسيسها. متى فعلنا ذلك ودرسنا الماضي جيداً، أدركنا أموراً وحقائق لا نستطيع إدراكها إذا اقتصرنا على الاهتمام بشؤون حالية عرضية أو محلية. متى درسنا تاريخ جمعية البنائين الأحرار جيداً أمكننا أن نستخرج منه الأمور أو القواعد الأساسية الآتية:

أولاً: إنّ جمعية البنائين الأحرار جمعية أنشئت لأصحاب الأفكار الحرة في العالم، والقصد منها تحرير الشعوب من قيود الاستبداد واستعباده، وتحرير العقل البشري من عبودية الأوهام والخرافات وسيطرتها، ومحاربة الجمعية الحكم الاستبدادي المطلق في الشعوب شاهدة على القسم الأول ولها أمثال كثيرة منها الثورة الفرنسية. والحملة القوية على الأوهام والخرافات الإكليريكية وغيرها في جميع أنحاء العالم شاهدة على القسم الثاني. وأعمال الجمعية في هذا السبيل لا تحصى، لذلك أضيف إلى جمعية البنائين الأحرار لفظة مدرسة.

ثانياً: إنّ تنفيذ قصد الجمعية يقتضي أربعة أمور هي السياسة والعلم والاقتصاد والحرب. والتاريخ يفيدنا أنّ الجمعية كانت تنفّذ مقاصدها بواسطة هذه الخصائص الأربع.

ثالثاً: كان لا بدّ، للقيام بما وضعته جميعة البنائين الأحرار على عاتقها، من الاعتماد على القوة، والقوة لا يجب أن تفهم بمعناها البسيط، فهي تتناول القوة المادية والعقلية معاً.

رابعاً: إنّ محافل جمعية البنائين الأحرار هي قوة الجمعية الفعلية. والمسؤولية الملقاة عليها كبيرة وهامة.

خامسا: إنّ نمو جمعية البنائين الأحرار وتشعبها في جميع أنحاء العالم بعث على استقلال أقسامها الكبرى استقلالاً يكاد يكون تاماً، وانصرف كل قسم من هذه الأقسام إلى العمل في الدائرة التي يعيش وينمو فيها. لذلك نرى جمعية البنائين الأحرار الفرنسية تهتم بفرنسة قبل كل بلاد أخرى. والأميركية تهتم بأميركة أولاً وهلمَّ جراً.

سادساً: مما يؤسف له جداً أنّ المحافل السورية لم يمكنها حتى هذه الساعة توحيد نفسها في شرق مستقل تبعاً للقاعدة الطبيعية التي سارت عليها محافل الجنسيات الأخرى.

سابعاً: إنّ عدم توحيد المحافل السورية غلطة فاضحة يجب الإسراع إلى إصلاحها حالاً وسريعاً.

ثامناً: لمّا كانت الحرية أول مبادىء جمعية البنائين الأحرار المقدسة، كان واجب المحافل العمل في سبيل الحرية. ومواضع عمل المحافل أوطانها لأن العمل فيها أسهل عليها وأوجب لها من غيرها. والمحافل السورية يجب أن تتبع هذه النظرية الطبيعية أيضاً.

تاسعاً: إنّ محافل كثيرة في العالم أهملت أمر المسؤولية الملقاة على عاتقها، وأدخلت في عداد أعضائها من ليسوا أهلاً للانخراط في سلك العشيرة المقدسة، فكان ذلك باعثاً على فشلها في مهمتها المقدسة وفي هذا الخطأ الخطير الخطر وقع كثير من المحافل السورية.

عاشراً: إنّ العمل بروح مبدأ جمعية البنائين الأحرار واجب دائماً وأبداً. والاقتصار على الطقوس والتقاليد لا يعني إلا الانحطاط.

هذه هي الأمور التي نستخرجها ويهمنا استخراجها من التاريخ، وهي تحمل على درس طويل ليس هذا محله. وما يهمنا الآن هو أن نعرف ما و مركز «محفل نجمة سورية» بالنسبة إلى الأمور المتقدمة. كل عضو في «محفل نجمة سورية» يجب أن يفهم هذه القواعد ويعرف نسبة عمله وعمل محفله إليها.

إنّ القصد من فتح الموضوع هو فائدة «محفل نجمة سورية» الذي تشرفت بأن أكون أحد أعضائه، والذي شرّفني في هذه المدة الأخيرة بوظيفة سكرتيره رغماً من أني أقل أعضائه أهلية لها. لذلك أرى الواجب يقضي بترك فلسفة النعامة التي تزج رأسها في الرمال حاسبة أنها بذلك تخفي نفسها عن الصائد، والإقرار بالحقائق الواقعية.

إنّ وجودي في مركز سكرتيرية المحفل يخوّلني التصريح بأن «محفل نجمة سورية» قام بأعمال خيرية حميدة وفكر في مشاريع مفيد، ولكنه لم يتصدَّ لخوض قضية مبدأ الجمعية الأساسي والعمل في سبيله. ويمكنني الآن أن أقول إنّ كل المحاولات التي قصد منها حمل المحفل على التدخل في مسألة حرية وطننا انتهت بالفشل وآخر المحاولات من هذا القبيل كانت محاولة عقد مؤتمر عام للبنائين الأحرار السوريين في البرازيل. فرغماً من تقرير عقد المؤتمر المرة بعد المرة، فشلت كل الجهود في تنفيذ ذلك القرار.

إنّ الاشتغال في القضية الوطنية هي ما عجّل في انضمامي إلى «محفل نجمة سورية» وهو ما عجَّل في انضمام كثيرين غيري ولكن المنطق الذي استعمل في هذا المحفل، وهو التباعد عن السياسة، قد قضى على أكبر آمالنا. من غريب أمر هذا المنطق أنه فشل في قضية التوافق فشلاً تاماً. وإليكم مثال على ذلك:
عاد الأخ إسبر خوري من الوطن، وفي أول جلسة حضرها في هذا المحفل ألقى علينا خطاباً وصف فيه حالة سورية السيئة وخص بالذكر منها حالة البنائين الأحرار هناك. وكنا قد توقعنا لهذا الوصف نتيجة منطقية هي الانتهاء بحثّ الإخوان على التضامن في سبيل مساعدة إخواننا في سورية. ولكن النتيجة كانت على عكس ذلك تماماً.

إنّ الرئيس المحترم [الدكتور خليل سعاده] ذكر في كتابه الوداعي في الجلسة السابقة أنه إذا كان المحفل يرى أنّ عدم التداخل في السياسة يضمن كيانه، فالأفضل أن لا يتداخل المحفل في السياسة. وأنا من الذين يوافقون على كلام الرئيس المحترم ويعترفون بحكمته.

بيد أنه لمّا كنت أنا سيآسية قبل كل شيء، فإني قد انصرفت إلى الاشتغال بالسياسة خارج المحفل. والشغل السياسي أخذ في المدة الأخيرة في الازدياد حتى أصبح يستغرق كل وقتي تقريباً. لذلك أرى أنّ الحالة تضطرني إلى طلب الاستعفاء من كل وظيفة في المحفل، ومن عضوية المحفل أيضاً. وإني أرجو أن يجيبني المحفل إلى طلبي خصوصاً وأني سوف أكون من الآن فصاعداً زيادة عدد فقط، لأن العمل الذي لا يمكنني القيام به والذي لأجله بقيْتُ كل هذه المدة صامتاً صابراً، ليس للمحفل حاجة به.

بقي أن أعلن أمام هذا المحفل الموقر أنّ انسحابي من عضويته ليس دليل استياء أو ما شاكل، بل الحقيقة أني أتأسف جداً لاضطرار إلى ترك «محفل نجمة سورية» الذي لا أندم مقدار ذرة على وجودي فيه، بل بالعكس أحمُد الظروف التي قادتني إليه.

في «محفل نجمة سورية» وُجدت بين إخوان غيورين مخلصين شعرت أنهم إخوان حقيقيون لي. ورجائي الخاص إليهم أن ينظروا إلى تقصيري وأغلاطي بعين الحلم، وأن يذكروا دائماً أنني بشر لا إله.

يا أخواني الأعزاء:
ثقوا بأني أترك «محفل نجمة سورية» حاملاً لأعضائه في قلبي تذكارات جميلة جداً، هي تذكارات الأخوة الحقة والمحبة الصادقة. إني لن أنسى «محفل نجمة سورية»، فليحيى «محفل نجمة سورية» وليحيى إخوان «محفل نجمة سورية».

سان باولو في 24 مايو/أيار 1926.

المخلص
أنطون سعاده
«نقلاً عن القلم الحديدي، سان باولو، 1926»
صدى الشمال – صوت الجيل الجديد، بيروت   
العدد 84، 14/2/1960

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى