لجنة التمثال تهين شعور العالمين المسيحي والإسلامي – 2

إني أحد أولئك الذين وقفوا في بعلبك أمام تلك الأعمدة التي لا تزال رغم كرّ الأعوام رمز تلك العظمة التاريخية، متهيبين خاشعين يتأملون تلك البقايا الخالدة، فلا تزيدهم التأملات إلا حيرة. ويفكرون في دقة ذلك البناء العجيبة فلا يزيدهم التفكير إلا رهبة.

أمام تلك الأعمدة التي غالبت الدهر وأبناءه وصارعت الطبيعة وعناصرها، وقفت مسائلاً إياها عن ذلك الماضي المجيد. فكان جوابها ذلك الصمت الرهيب الذي هو أبلغ من كل كلام، فشعرت بعاطفة ارتعشت لها نفسي وتأثير عميق تردد صداه في قلبي.

أنا أيضاً أحد أولئك الذين أسعدهم الحظ أن يقفوا أمام تلك البقايا الخالدة في تدمر، وشاهدوا عظمة تلك الآثار التي أكبرَها التاريخ أيّما إكبار. وهي وآثار بعلبك أشهر ما بقي ليحدّث العالم عن أمجادنا القديمة الباذخة.

هذه الآثار التي لا تعادل بثمن، تريد لجنة التمثال أن تقتلعها من أماكنها لتجعلها وقفاً على البرازيل والشعب البرازيلي لأن أعضاء اللجنة أثْروا في هذه البلاد.

إنّ عظام أولئك الجبابرة الذين على إرادتهم الحديدية وسواعدهم الفولاذية قامت هذه الأمجاد التي قصّر عن أمثالها العالم والتي خلّدت إسم «سورية» في بطون التاريخ إلى الأبد، لَتنتفض في مراقدها حنقاً لهذه الإهانة التي وجهتها لجنة التمثال ليس إلى العالمين المسيحي والإسلامي فقط بل أيضاً إلى أرواح أولئك الجبابرة الراقدين رقادهم الأبدي.

إنّ أولئك الجبابرة من أجل سورية وأبناء سورية وأمجاد سورية أقاموا تلك الأمجاد، والآن تريد لجنة التمثال من أبناء سورية أن تنتزع كل أثر من آثار مجد سورية وكل معلَم من معالم عزها القديم وتقفها كلها على البرازيل، لأن البرزيل في حاجة إليهم كما أنهم في حاجة إليها! ــــ فما أمجد سورية في نظر العالم على زمن أولئك الجبابرة، وما أحقر سورية في نظر البرازيل على عهد لجنة التمثال!

إننا لم نرَ لجنة فرنسية تقول لو أتينا بقبر نابليون ودانتون، ولا إنكليزية تقول لو أتينا بقبر ولنتون ونلسن، ولا أميركية تقول لو أتينا بقبر واشنطن ولنكلن لما وفينا البرازيل ما علينا لها من الإكرام. فما قولك بلجنة سورية تقول لو اغتصبنا قبر صلاح الدين من دمشق واغتصبنا قبر المسيح من القدس ووقفناهما على البرازيل لما وفينا ما علينا لها من الإكرام؟

إنّ اللجان الفرنسية والإنكليزية والأميركية التي تقول هذا تقتلعها جواليها من كراسيها اقتلاعاً في خلال أربع وعشرين ساعة، وينقضّ عليها غضب شعوبها انقضاض الصواعق من عنان السماء!

ومن هما نابليون ودانتون، ومن هما ولنتون ونلسن، ومن هما واشنطن ولنكلن في عين العالم المسيحي بالنسبة إلى يسوع المسيح؟ إنّ هؤلاء العظماء وألوفاً سواهم من الأباطرة والأمراء كانوا ينحون لاسمه ويسجدون له ويركعون لتمجيده في كنائسهم، لا ركوع العبد أمام السيد بل ركوع المخلوق أمام الخالق!

ألا تفقه لجنة التمثال أنّ هذا القبر المقدس إنما هو وحده دون سواه كان سبب الحروب الصليبية؟ هل تفقه ما معنى الحروب الصليبية؟ إحدى عشرة حرباً هائلة نشبت بين الأوروبيين والمسلمين بعد أن طاف الناسك بطرس الشهير عواصم أوروبة وبلاطات باباها وملوكها وأشهر مدنها وبلدانها، خاطباً مثيراً الحماسة في الصدور للاستيلاء على القبر المقدس ــــ جيوش جرارة تسير على أقدامها قاطعة أوروبة مؤلفة من رجال تركوا وراءهم نساءهم وأولادهم، ومن شبان تركوا وراءهم أمهاتهم وعرائسهم ــــ في تلك الأيام التي لم يكن فيها سكك حديدية ولا مراكب بخارية ولا أسلاك برقية ولا ذخائر حربية ــــ يسيرون في الفيافي والقفار تحت تأثير الجوع والعطش ــــ تحت حرارة الشمس المحرقة أو سيول الأمطار الجارفة ــــ تتفشى فيهم الأوبئة ويجرفهم الموت كما تجرف الأنهار الأشجار اليابسة، قبل أن يبلغوا ميناءً بحرياً للإقلاع منه إلى قبر المسيح ــــ كم مات منهم على الطريق! كم تألموا! كم لاقوا من المصاعب والمصائب التي تقصر الأقلام عن وصفها! كم لعبت العواصف بمراكبهم الشراعية في عرض البحر كما تلعب الجبابرة بالأكر! كم تجشموا من المشاق حتى بلغوا الأرض المقدسة! وهناك ــــ هناك ــــ ما أهول الحروب التي خاضوا غمارها! وما أغزر الدماء التي سالت في سبيلها! هناك اضمحلت هذه الجيوش الجرارة كما يضمحل الثلج تحت حرارة الشمس. وكلما اضمحل جيش هبّت أوروبة لحشد جيش آخر! ــــ هناك التحم الغرب والشرق في معارك دموية هائلة! هناك ــــ هناك ظهرت الشجاعة الجسدية لا بالمدافع الضخمة ولا بالطيارات المحلقة ولا بالدبابات الجارفة ولا بالغازات السامة بل بالسلاح الأبيض! ــــ بالسيوف المرهفة والرماح المشرعة والخناجر اللامعة تغمد في الصدور والقلوب، تبتر الأعضاء وتحذف الرؤوس! هناك تلاحمت الأبطال جسماً لجسم واصطدمت الكماة فارساً لفارس! هناك ــــ هناك ظهر على مسرح العالم للمرة الأولى شاب في عنفوان الشباب قادماً من الجنوب من بلاد العرب للدفاع عن القبر المقدس لأن من استولى على القبر المقدس استولى على الأرض المقدسة! هو هو صلاح الدين الأيوبي الذي طارت شهرته في الآفاق وأصبح اسمه عنواناً للشجاعة وكرم الأخلاق. هناك ــــ هناك ــــ لقي نده في الشجاعة العظيمة والأخلاق السامية ــــ ريكاردوس الملقب بقلب الأسد ــــ وهناك اصطدم هذان البطلان واقتتلا دون أن ينال الواحد من نده مراماً ــــ وهناك ظهرت الشهامة الحربية التي قلّما نرى لها أثراً في السنين الحالية ــــ هناك ترك الغرب والشرق قتلاهما تملأ جثثهم الهضاب والبطاح، وخرج صلاح الدين من هذه الحرب ظافراً مخلداً إسمه في التاريخ.

هذا هو القبر المقدس الذي تريد لجنة التمثال أن «تغتصبه» من القدس ولتضعه عند أقدام البرازيل، لأن أعضاءها وفريقاً من الجالية أحرزوا أوراقاً مالية كثيرة!

وكما ابتهل المسيح أثناء صلبه إلى الله طالباً منه أن يغفر لأعدائه لأنهم لا يدرون ما يفعلون [لوقا 34:23]، كذلك نبتهل نحن إليه أن يغفر لأعضاء لجنة التمثال صلبه مرة أخرى ودفنه مرة أخرى، لأنهم هم أيضاً لا يدرون ما يفعلون!


أنطون سعاده
الجريدة، سان باولو
العدد 84،  15/7/1922

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى