الرسَــالة 15 – ادويك


حبيبتي !
أفقت اليوم باكراً قبيل الفجر على صوت المؤذِّن فأشجاني الصوت وفكرت بك مليّاً وتذكرت آذانك الذي أسمعتنيه في “دينة الجرة” وكم تمنيت لو كنتِ قربي في هذه الدقائق الملأى بالضعف أو بالقوة! أو لو كنت قربك أحيطك أنا نفسي بدلاً من تحيط بك صوري!
كتبت إليك منذ نحو عشرة أيام جوابي على رسالتك الأخيرة، ومرة أخرى منذ ثلاثة أيام بالبريد الجوي. أما أنتِ فلم تكتبي إليَّ الأسبوع الماضي ولعل امتناعك هو جوابك على بعض التقطع في رسائلي الناشئ عن التعب الذي حلَّ بي وعدم إعطائي فرصة للتغلُّب عليه وعلى الانكسار في لهجة بعضها الذي هو وليد هذه الظروف الغريبة المحيطة بي. وإن يكن هذا هو السبب فلا بأس.
كانت الايام الأخيرة، على رغم تعب أعصابي، مفعمة بالشواغل السياسية من داخلية وخارجية. فإن التضعضع الواسع النطاق الذي حلَّ بالحزب من جراء الاضطهادات المتوالية، وبعدي عن الإدارة مدة سنة ونيّف، سارت فيها الأمور كما أرغب وكما لا أرغب، أوجب القيام بعمل واسع وخطة طويلة لإعادة الحزب إلى تقاليده والقبض على أعنَّة الأمور وكبح جماح من أستيقظت أنانيَّاتهم لتطغى على العقيدة والنظام والعودة إلى الأعمال الإنشائية والفكرية، ووضع قواعد المؤسسات العديدة التي أُهمل أمرها كل هذا الوقت الطويل، كالمكتب السياسي وشُعَبِه ومؤسسات الإذاعة “كالندوة الثقافية” و “النهضة”، وتطهير الحزب من المفسدين والجواسيس الذين انتهزوا فرصة تغيُّبي في السجن وانهماكي بالأمور السياسية المستعجلة، فانبثّوا في الدوائر غير المضبوطة وأطلقوا أيديهم في الأوراق والوثائق وابتدأوا ينشئون شِباكاً تجاهلت أمرها إلى أن انتهت المعركة السياسية ثم تفرَّغت لهم فأخذت في إقصائهم واحداً واحداً وبينهم جورج حداد الذي يّعدُّ كبيرهم وهذا كان خطراً لأنه توصَّل أثناء سجني إلى لعب دور كبير في الحزب وأصبح ذا اطلاع في الأمور، وصار يرتكب أموراً خطيرة ففصلناه إدارياً فغافل حارس المكتب وسطا عليه مع بعض أعوانه وسرق أوراق الداخلية وبعض جلسات مجلس العمد، وهي ليست ذات خطر، ولكن سرقتها تسبب عرقلة إدارية وقتية إلى أن نستحصل على نسخها ثم تعود الأمور إلى مجاريها.
وإن من الأمور التوجيهية التي أقوم بها حضوري اجتماعات “الندوة الثقافية” التي تتقدم الآن باطراد والاجتماعات تحدث مرة في الأسبوع فتلقى محاضرة من قبل أحد الأعضاء المؤهلين، ثم يجرَى نقاش وبحث في موضوع المحاضرة ووجهة نظر المحاضر، وفي الأخير أقول كلمتي في المحاضرة والموضوع والمناقشات فتكون الفصل. وبهذه الصورة أعطي توجيهات سياسية واجتماعية واقتصادية لعدد من المثقفين من طلاب ومعلمين ودارسين. وأحضر، مرة في الأسبوع، اجتماعات الفرع السرّي الذي أنشأته مؤخراً وأعطي التوجيهات العملية وأصنِّف الأعمال وأنتدب الأشخاص. والآن أهتم بتنظيم الفرع النسائي. وأحضر، مرة في الأسبوع، اجتماعات اللجنة التحريرية في الجريدة فأحاضر فيها أحياناً وأعطي المحررين المستجدِّين دروساً في الفن الصحافي وفي المبادئ السياسية.
وفضلاً عن ذلك فهنالك أوراقي المتراكمة القديمة التي لم أحظَ بناموس يتمكن من تصنيفها وضبطها لي، فاضطررت إلى القيام بهذا العمل بنفسي. وإذ لا ناموس لدائرتي فإني أضطر للإجابة على الرسائل الإدارية والحزبية من كل نوع بنفسي، فضلاً عن الرسائل الشخصية وقراءة الصحف وتصريف الشؤون الحزبية العائدة إليَّ.
وقد اهتممت مؤخراً لِقضية الكاتبة “مي” التي قد تكون ضُحيِّت على مذبح أهواء نسيب لها هو الدكتور زيادة الذي وضعها في “العصفوية” نحو سنة ثم نقلها إلى مستشفى ربيز حيث بقيت نحو ثمانية أشهر بدعوى أنها مجنونة في حين أنها ليست كذلك. فخابرت أصدقائي في دوائر القضاء وقابلت رئيس الغرفة السياسية في المفوضية الفرنسية بشأنها فوعدني بفتح تحقيق في هذه القضية. ثم كتبت المقالة الأولى عنها في “النهضة” فكان لها دويّ وأثارت اهتمام الرأي العام. وقد تكللت هذه الحملة بالنجاح ونُقلت مي إلى المستشفى الأميركاني وأظن أنها تنقل على الأثر إلى منزل خاص بها.
ووسط كل هذه الشواغل أفكر بك دائماً ولكني أعود فأفكر بظروفي وبالمستقبل فأرى الأمور معقّدة، فهي تعقَّدت من جهتك، أي من جهة الماما وميشيل. ثم من جهتي أرى أن الأمور قد تتعقَّد فأكتئب لذلك.
إذا تأخرت هذه الرسالة في الطريق فهي ستصل إليك في عيد ميلادك. وقد كنت أريد أن أحقق فكرة خاصة لهذا العيد ولكن الموانع العارضة حالت دون ذلك.
إني أغتبط كثيراً لميلادك وأتألم لبعدي عنكِ ولكننا يجب أن نكون أقوياء سبيل سورية.
سلامي للماما والجميع وخصوصاً لهلن
ولكِ حبي وقبلة العيد

(التوقيع)
في 24 يناير 1983

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى