المقالات الاقتصادية – أزمتنا الاقتصادية عوامل أخرى

أشرنا في مقالة سابقة نشرناها في الجزء الماضي إلى بعض العوامل الرئيسية في تشويش نظامنا الاقتصادي، وأهمها، عوامل تجزئة البلاد واتّباع سياستين اقتصاديتين متضاربتين في الشمال والجنوب، وتحميل الأمة قسماً لا يستهان به من ديون دولة غريبة سيطرت على هذا القطر ردحاً من الزمن سيطرة العدو على العدو، ولذلك لم يكن من العدل في شيء أن تتحمل هذه الأمة بعض تلك الديون، والآن نرى أن نخصّ القسم الأكبر من هذه المقالة بعامل آخر جديد ولكنه، على حداثة عهده، قد فعل حتى الآن كثيراً في التأثير على اقتصاديات الشعب تأثيراً سيئاً هو: مهاجرة أقوام غريبة إلى هذه البلاد.

إذا نظرنا في أمر هذا العامل الجديد وجدنا أنه ينقسم إلى قسمين واضحين: القسم الأول يتناول حركة مهاجرة اليهود إلى فلسطين و القسم الثاني يتناول مهاجرة الأرمن اللاجئين إلى لبنان والشام. فلننظر الآن في كل قسم على حدة:

إنّ استقراء طبيعة القسم الأول وتأثيره إلى الآن وخطره على مستقبل الشعب بالنسبة إلى هدفه يرينا أننا الآن تجاه قضية لم نعرف لها مثيلاً، فيما سبق من تاريخنا، ولذلك ترانا لا ندرك إدراكاً تاماً مدى الخطر الذي يهددنا في اقتصادياتنا واجتماعياتنا.

الاستيطان ا ليهودي: أضاف عامل الهجرة اليهودية عوائق جديدة إلى العوائق التي ابتدأت بعد الحرب بتجزئة هذا القطر وإقامة الحواجز من جمركية وغيرها، فإن اليهود يأتون إلى هذه البلاد مدفوعين بدافع فكرة قومية غرضها الظاهر إيجاد وطن قومي لهم في فلسطين، الغرض الحقيقي الاستيلاء على فلسطين أولاً ثم الاستيلاء على بقية سورية مع مرور الأيام. فتضارب مصلحة مهاجري اليهود ومصلحة أهل البلاد أمر مفروغ منه، والذين صدّقوا في بادىء الأمر أنّ المهاجرة اليهودية ستوجد حركة اقتصادية تؤول إلى تحسين الأحوال وازدهار التجارة والزراعة والصناعة قد ابتدأوا يدركون أنه إذا حدث شيء من ذلك ففائدته عائدة على اليهود وحدهم.
إنّ أهم نقطة في مهاجرة اليهود هي أنّ لهذه المهاجرة غرضاً معيناً هو أن يحلّ اليهود محل السوريين في فلسطين وسائر سورية، وهو ما لا يمكن تحقيقه بالتعاون مع العنصر السوري إن في فلسطين وإن في لبنان والشام، بل إنّ تحقيقه لا يتم إلا عن طريق التضييق على المصلحة السورية ومقاومتها لكي تضعف أمام المصلحة اليهودية وتتخلى لها عن السيطرة الاقتصادية في هذه البقعة وفي الشرق الأدنى كله. وهكذا نرى أنّ السبب في خسارة أسواق فلسطين التي أشارت إليها جمعية التجار في هذه المدينة ونظر في أمرها المؤتمر الاقتصادي، لم يكن في التعرفة الجمركية فقط. فلو افترضنا أنّ التعرفة الجمركية خفضت فهل يكفل تجارنا
استرجاع الأسواق الفلسطينية والتغلب على المزاحمة اليهودية؟

المهاجرة الأرمنية: لا نعتقد أنّ المهاجرة الأرمنية تهدد اقتصاديات الشعب السوري بقدر ما تهددها المهاجرة اليهودية. ومع ذلك فلا يمكن القول إنها لم تؤثر تأثيراً سيئاً على اقتصاديات الشعب. ذلك أنّ الأرمن جاؤوا سورية جالية واحدة كبيرة تربطها لغتها الأرمنية وعاداتها القديمة أو المكتسبة في تركية أو المناطق الأخرى التي كان ينزلها بعض أفرادها، فكان أول واجب عليها حين نزولها في بلاد جديدة غريبة أن تتكاتف وتتضامن وتبقي لها صفة حياة قومية مستقلة، وهذا أمر طبيعي في انتقال جاليات كبيرة دفعة واحدة وحلولها في بلاد غريبة، ولا شك أنّ تعاون الأرمن ومزاحمتهم أبناء البلاد على المهن الحرة والصناعات القليلة قد سبب أضراراً معاشية لا يستهان بها لأهل الأعمال السوريين. وكان إدخالهم في الرعويات السورية قبل استيفاء الشروط التي تكفل اندماجهم في القومية السورية، ومع بقاء مدارسهم ولغتهم وجرائدهم، مما سهّل لهم مزاحمة أبناء البلاد الحقيقيين، وكثيرون منهم قد أصبحوا في حالة مادية حسنة وجمعوا أموالاً يقدرون أن ينقلوها من هذا القطر متى أرادوا.

بيد أنّ أضرار الأرمن الاقتصادية تزول إذا اتخذت الحكومات الوسائل الفعّالة لإزالة القومية الأرمنية بنص قوانين تمنع جميع حاملي الرعويات السورية من تعلّم لغات غير اللغتين الرسميتين في البلاد واللغات الأوروبية التي يرجى منها منفعة علمية أو مادية. أما مسألة ما إذا كان من المستحسن إدغام الأرمن في صلب الشعب السوري فمن الأبحاث الاجتماعية التي لها حديث غير هذا الحديث. وما زال الأرمن لا يرمون إلى تحويل سورية إلى أرمينية ثانية، وبما أنه لا يوجد تيار مهاجرة أرمنية مستمر فإن أضرار الأرمن الاقتصادية، على أهميتها، ليست من الأضرار الثابتة التي يخشى منها على اقتصاديات الشعب السوري.

الاقتصاد القومي: لعلَّ أعظم نقاط ضعفنا فيما يختص بشؤوننا الاقتصادية أننا لا نزال بعيدين جداً عن مبادىء الاقتصاد القومي. إننا حتى الساعة لا نفقه جيداً أنّ قضيتنا الاقتصادية قضية قومية قبل كل شيء.
إننا نعقد المؤتمرات للبحث في التعرفة الجمركية واتفاقات السكة الحديدية، ونظن أنه متى أجريت التعديلات التي نتوخاها من هذه الوجهة، انتهت قضيتنا الاقتصادية على أحسن ما يرام. وما أبعد هذا الظن عن الحقيقة!

إنّ المؤتمرات التي يرجى من وراء عقدها الوصول إلى نتائج ثابتة في حياتنا الاقتصادية يجب أن تتناول غير مواضيع التعرفة الجمركية واتفاقات السكة الحديدية التي هي من الأمور الفرعية لا الأساسية. يجب علينا أن نعقد مؤتمرات ندرس فيها موقف الشعب السوري كله هنا وفي الشام وفلسطين وسائر أنحاء البلاد السورية وموارده الطبيعية وكيفية استثمارها والعوامل التي تؤثر عليه ونوعها وكيفية الوقاية من أضرارها. ويجب أن يشترك في هذه المؤتمرات مندوبون إختصاصيون من جميع أنحاء القطر يضعون تقارير وافية عن أحوال مناطقهم الزراعية والتجارية والصناعية. أما عقد المؤتمرات لمطالبة الحكومات المشلولة بتعديل بعض التعرفات الجمركية والاتفاقيات الإدارية فليس من الأمور التي يترتب عليها عظيم فائدة.

إنّ مسألتنا الاقتصادية يجب أن تكون مسألة شعب يريد هو أن يتولى أموره بنفسه، فيراقب الأحوال والأسواق ويدرس الأمور التي لها علاقة باقتصادياته، لأنه لا يمكن في مثل حالتنا الحاضرة الاعتماد على الحكومات المحلية التي لا يمكنها أن تنظر إلى الأمور إلا من وراء نظارات الوظائف في نطاق محدود جداً.
ولقد سرّنا كثيراً ما أذاعته الصحف منذ أيام، عن عزم صنّاع الجلود والأحذية هنا وفي فلسطين عقد مؤتمر يدرسون فيه موقف صناعاتهم وطرق تعاونهم على وقايتها من مزاحمة المصنوعات الغريبة. ونرجو أن يعقب مؤتمر صنّاع الجلود مؤتمرات إختصاصية أخرى تنتهي إلى مؤتمر عام يوضع فيه الموقف الاقتصادي كله على بساط البحث.

وسرّنا أيضاً ما نراه من تنبه واستعداد في الشعب للاهتمام بشؤونه الاقتصادية، والإقبال على الصناعات الوطنية وتأييد كل ما من شأنه تحسين حالة الأمة الاقتصادية، وهذه حالة نفسية كثيرة الموافقة للقيام بنهضة الاقتصاد القومي التي لا رجاء بتحسين أحوال البلاد الاقتصادية إلا على يدها.

أنطون سعاده
المجلة، بيروت 
المجلد 8، العدد 3، 1/5/1933 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى